إن الثقافة في أدنى مستوياتها هي مجموع الاستجابات والمواقف التي يواجه بها شعب من الشعوب ـ بحسب عبقريته ـ ضرورات وجوده الطبيعي من مأكل وملبس وتناسل، أما على المستوى الأرفع فإن للثقافة أوجها ثلاثة هي:
تنمية الفكر وترقية الحس النقدي، تكوين الحس الجمالي وإرهاف الذوق، والاستمساك بالقيم وغرس الحس الأخلاقي.
وإذا كان مفهوم الثقافة ينزع إلى الخصوصية، فإن الحضارة تنزع إلى العمومية. فالثقافة هي الحضارة الخاصة بأمة من الأمم، لايشاركها في شأنها أحد، تحمل صيغة هذه الأمة، وتتسم بسماتها، ووراء كل حضارة دين، وقد تصب عدة ثقافات في نهر حضارة واحدة. فالثقافة العربية التي ننتمي إليها هي في أدنى مستوياتها مجموع تقاليدنا وعاداتنا، أما على مستواها الأعلى فهي النهج الذي نهجه الغزالي في الجانب الروحي، وابن رشد في الجانب الفكري، وابن حزم في الجانب الأخلاقي، وابن خلدون في الجانب الاجتماعي. ونشكل ـ نحن العرب ـ بثقافتنا مع ثقافات أخرى ـ الحضارة الإسلامية التي ساهمنا جميعا في إنشائها وإثرائها.
إن هذه الحضارة الإسلامية التي سادت الكون بالعلم والعقل والعدل في نهاية الألفية الأولى من التقويم الميلادي، عرفت بعد ذلك فترة انحدار ثم فترة انحطاط دام قرونا، وهي اليوم ـ ونحن على أبواب الألفية الثالثة ـ تواجه أزمة مزدوجة: فهي تبحث ـ من جهة ـ عن مشروع نهضوي لتعيش مع العصر، وهذا لن يتأتى بالقطيعة والجهل، ولكن بالحوار والفهم.
وتعاني ـ من جهة أخرى ـ عداء للحضارة الغربية التي بدأت ـ منذ انهيار الشيوعية تزعم وجود خطر من الإسلام، وتريد أن تصرف مشروعنا النهضوي عن مرجعيته الإسلامية برفع شعارات خلابة مثل الحداثة التي في رأيها قطيعة مع العروبة والإسلام، أو بالتركيز على تاريخ ماقبل الإسلام كإبراز الفرعونية في مصر، أو الأشورية في العراق، أو الفينيقية في لبنان، أو البربرية في المغرب والجزائر.
لقد كان الحوار دائما المبدأ الأساسي في معاملة المسلم لغيره، إنه حوار يقوم على المجادلة بالتي هي أحسن، وعلى الإقناع بالمنطق السليم الذي لايستسيغ الربط بين الحضارة والصدام، لأن الصدام يجب ألا يكون مبادرة المسلم، فهو يؤدي إلى الدماء والدمار، بينما الحضارة معناها العمران والسلام